فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.آراء المفسرين في قصة هاروت وماروت:

من المفسرين من أورد القصة دون تعليق، ومنهم من حكم عليها بالفساد والبطلان.
أما الفريق الأول فمنهم الإمام الطبري في تفسيره. وذكر أيضًا قصة خاتم سليمان الذي حكم به في ملكه، وذكر ذهاب ملكه بفقد الخاتم ثم عودة الملك إليه بعد أن وجد الخاتم ولا شك أنها قصة مختلقة لا أصل لها وسيأتي إن شاء الله لها مزيد بيان في سورة ص.
وممن سار على نهج الإمام الطبري في هذه القصة السمعاني في تفسيره، ومنهم الإمام البغوي في تفسيره معالم التنزيل، ومنهم الثعلبى في الكشف والبيان، ومنهم ابن أبى زمنين، ومنهم النسفي، ومنهم السيوطي في الدر المنثور وأشار إلى قصة الخاتم المزعومة، ومنهم الشوكاني في فتح القدير. وسيأتي ذكر كلامه إن شاء الله لاحقًا.
وأما الفريق الثاني فمنهم الإمام الفخر الرازي، وقد سبق كلامه.
ومنهم ابن الجوزي في زاد المسير: قال بعد ذكر القصة: إلا أن هذه الأشياء بعيدة عن الصحة. اهـ.
ثم ذكر أقوال العلماء في عذاب هاروت وماروت، ولم يعلق عليها، وكأنه أحال القارئ على ما ذكره قبل ذلك من استبعاده لصحتها. اهـ.
ومنهم الثعالبي قال: وما يذكر في قصتهما الملكين على الزهرة كله ضعيف، وكذا قال عياض، وأما ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت، وما روى عن على وابن عباس- رضي الله عنهما- في خبرهما وابتلائهما، فاعلم أكرمك الله أن هذه الأخبار لم ير ومنها سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا شيئًا يؤخذ بقياس، والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم، كما نصه الله أول الآيات.
ومنهم البيضاوي في تفسيره قال بعد أن ذكر ملخص القصة:
فمحكي عن اليهود، ولعله من رموز الأوائل، وحله لا يخفي على ذوي البصائر. ومنهم الخازن في تفسيره. وسيأتي نص كلامه لاحقًا إن شاء الله في عصمة الملائكة.
وقال القرطبي في تفسيره بعد ذكر الروايات في هذه القصة: قلنا إن هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله. ورد قصة الزهرة بأنها خلقت يوم خلق الله السماوات والأرض أي قبل خلق آدم والملكين وقال ابن كثير بعد ما ذكر الآثار الواردة في تلك القصة عن الصحابة والتابعين- رضي الله عنهم- قال ما نصه:
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال. اهـ.
وذكر أبو حيان في البحر المحيط ملخص القصة ثم عقب عليها بقوله: وهذا كله لا يصح منه شيء. والملائكة معصومون، {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} {يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}.
ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر. اهـ.

.قال أبو السعود:

بعد أن ذكر ملخص القصة: ما يحكى في هذه القصة فمما لا تعويل عليه، لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة، لأدلة العقل والنقل، ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشاد اللبيب الأريب بالترغيب والترهيب. اهـ.

.قال الألوسي:

بعد أن ذكر القصة وأقوال من أقرها ومن أنكرها عقب على ذلك قائلًا: ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططًا، وقال غلطًا، وفتح بابًا من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رءوس الكفرة الطغاة، كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء. اهـ.

.قال الشوكاني في فتح القدير:

بعد أن ذكر أكثر الروايات في القصة ونقل كلام الإمامين القرطبي وابن كثير في عدم قبولها وردها قال: وأقول: هذا مجرد استبعاد وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك، فعلى فرض وجود هذه الأصول، فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين. اهـ.
وقال الدكتور محمد أبو شهبه رحمه الله في كتابه: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير بعد أن ذكر بعض الروايات لهذه القصة من كتاب الدر المنثور قال معقبًا بما نصه:
كل هذا من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل ولا نقل ولا شرع ولم يقف بعد رواة هذا القصص عند روايته عن بعض الصحابة والتابعين، ولكنهم أوغلوا باب الإثم والتجني الفاضح فألصقوا هذا الزور إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوه إليه. اهـ.
وقال صاحب الفتوحات الإلهية: بعد أن ذكر الرواية، واختار ما رجحه أبو السعود والخازن من عدم التعويل على هذه القصة لأن موارد ذلك رواية اليهود مع ما فيها من المخالفة لأدلة العقل والنقل.
ثم ذكر تأييد شيخ الإسلام زكريا الأنصاري للشهاب بن حجر في صحتها لأن لها طرقًا تفيد العلم بصحتها، فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم وموقوفة: على وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة. اهـ. بتصرف يسير.
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط محقق مسند الإمام أحمد عن هذا الحديث [6178] ما نصه: إسناده ضعيف ومتنه باطل. اهـ.

.قال صاحب الميزان:

وقد روى قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعًا عن الباقر عليه السلام وروى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفًا وعشرين حديثًا، صرحوا بصحة طريق بعضها. وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر- وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكب الزهرة أنها امرأة زانية مسخت- وأنها أضحوكة- وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى بها في قوله: {والجوار الكنس} [التكوير: 16] على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.
ومن هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسه اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدور الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم أخرون.
لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، وقال: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 42]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- كيف أخرجها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت.انتهى كلامه.
سؤال: ما الموقف من هذه الروايات التي حكم على بعض أسانيدها بالصحة؟
أجاب عن مضمون هذا السؤال الدكتور أبو شهبه رحمه الله بقوله:
وإذا كان بعض العلماء المحدثين مال إلى ثبوت مثل هذه الروايات التي لا نشك في كذبها، فهذا منه تشدد في التمسك بالقواعد من غير نظر إلى ما يلزم من الحكم بثبوت ذلك من المحظورات، وأنا لا أنكر أن بعض أسانيدها صحيحة أو حسنة إلى بعض الصحابة والتابعين، ولكن مرجعها ومخرجها من إسرائيليات بين إسرائيل وخرافاتهم، والراوي قد يغلط وبخاصة في رفع الموقوف، وقد حققت هذا في مقدمات البحث، وأن كونها صحيحة في نسبتها لا ينافي كونها باطلة في ذاتها ولو أن الانتصار لمثل هذه الأباطيل يترتب عليه فائدة ما، لغضضنا الطرف عن مثل ذلك، ولما بذلنا غاية الجهد في التنبيه إلى بطلانها، ولكنها فتحت على المسلمين باب شر كبير يجب أن يغلق.
ويرحم الله الإمام الحافظ الناقد البصير: ابن كثير فقد نبه على أصل الداء ووصف له الدواء وبين الحق والصواب في موقف المسلم من هذه الخرافات. اهـ.
وسيأتى ما ذكره المفسرون مفصلا إن شاء الله تعالى.

.قال الطبري:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا- مرتين أو ثلاثا- ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت».
وقد أشار ابن كثير أيضًا في التاريخ 1: 37- 38 قال: فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سيبل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل. وقال أيضًا، بعد الإشارة إلى أسانيد أخر: وإذا أحسنا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها.
وقال في التفسير أيضًا 1: 260، بعد ذكر كثير من الروايات التي في الطبري وغيره: وقد روى في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى. والله أعلم بحقيقة الحال.
وهذا هو الحق، وفيه القول الفصل. والحمد لله. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلابد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكًا. اهـ.
قال الفخر:
{هاروت وماروت} عطف بيان للملكين، علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، وقرأ الزهري: هاروت وماروت بالرفع على: هما هاروت وماروت. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}:

قال الفخر:
اعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال: وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} والمراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب، وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحدًا السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة، فيقولا له: {إنما نحن فتنة} أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي، فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة. اهـ.